بعد إلقاء نظرة على (نيو تاون) يمكن وضعها بأريحية في أي قاموس كتعريف مثالي للبلدة الأهدأ في العالم، يعرف الجميع ذلك، سكانها ومجلسها الحاكم وقائد شرطتها والخمسة وأربعون ضابطًا المسئولون عن أمن المدينة الصغيرة محدودة المساحة التي يسكنها أقل من ثلاثين ألف أمريكي والتابعة لمقاطعة (فيرفيلد) بولاية (كونيتيكت)، في ليلة الخميس الثالثعشر من ديسمبر لعام 2012 كان بإمكان السكان أن يروا رقمًا قياسيًّا جديدًا في الطريق إليهم، إنه العام العاشر على التوالي الذي يبدو أنه سينتهي بدون أن تشهد البلدة الودودة إلا حادثة قتل واحدة فقط مع امتلاكها لأحد أدنى معدلات الجرائم على مستوى البلدات الأمريكية، يتبقى أسبوعان على أية حال على انتهائه ويحق لأهل نيو تاون الاحتفال بأمان كهذا، لكن اليوم التالي سيحمل الكارثة، وسينتهى كل ذلك السلام للأبد.
في صباح الجمعة الرابع عشر من ديسمبر، وبينما يستعد أطفال البلدة لبدء يومهم الدراسي في مدرسة (ساندي هوك) الابتدائية العامة، إحدى مدارس نيو تاون الحكومية السبعة، كان (آدم لانزا) الشاب البالغ من العمر عشرين عامًا في منزله الذي يعيش فيه مع والدته بمفردهما ممسكًا ببندقيتها الـMK2-F مستعدًا لبدء نهر الدماء، في التاسعة والنصف تمامًا وقف الشاب المصاب بمتلازمة (أسبرجر) -إحدى أطياف اضطراب التوحد- أمام الفراش مصوبًا البندقية إلى والدته ومطلقًا أربع رصاصات على رأسها، بعد ثوانٍ معدودة سيلقي آدم البندقية ثم سيحمل البندقية الأخرى (XM15-E2S) نصف الآلية وإحدى منتجات صانع الأسلحة الأمريكي الشهير (بوشماستر) والمملوكة أيضًا لوالدته، ثم سينطلق إلى فناء مدرسة (ساندي)، في الساعة التاسعة وخمس وثلاثين دقيقة وعندما دخل آدم لفناء المدرسة فتح النيران على الجميع بلا استثناء ليقتل عشرين طفلًا تتراوح أعمارهم بين 5:10 سنوات وستة أشخاص بالغين من العاملين بالمدرسة، بعد انتهاء المذبحة التي استغرقت بضع دقائق سيدير آدم البندقية إلى رأسه ثم سيطلق الرصاص مباشرة لينتحر وليسدل الستار على أحد أسوأ أيام الولايات المتحدة الأمريكية رسميًّا وشعبيًّا، اليوم الذي حفر في التاريخ الأمريكي باسم (قتل ساندي هوك الجماعي).

بعد ساعات قليلة، وفي الوقت الذي وقف فيه الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) ملقيًا بيانًا طارئًا بوجه محتقن غير قادر على أن يمنع نفسه من البكاء، وقبل بدء التحقيقات بشكل كامل، كان الاتجاه الإعلامي لتناول ما يحدث متوقعًا، وفي هذا الوقت الذي أعاد فيه آدم أذهان الأمريكيين لمذبحة جامعة فيرجينيا التقنية المشابهة، والتي راح ضحيتها اثنان وثلاثون شخصًا وتحتل المرتبة الأولى في حوادث القتل الجماعي الأمريكية، كان المجتمع يتأهب لخوض الجدل المتكرر والمتجدد حول حقوق تملك الأسلحة الشخصية والقيود المفروضة على هذه الحقوق مع الكثير من الخلافات حول قانون (التحكم في السلاح)، والذي يقفز بصيغ مختلفة عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة ويمثل إحدى قمم التصارع بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وبين أطياف المجتمع نفسه. فيما تقف لوبيات الأسلحة وراء الستار تدافع عن مصالحها بشراسة تليق بأهمية القانون، إنه حياة أو موت بالنسبة لهم، ولوضع الأمور في نصابها، فإن عددًا لا يستهان به من الأمريكيين مؤمنون تمامًا أن حق شراء وحمل السلاح الشخصي هو حق إلهي منحه الله لهم، ولا يسمح لأي إدارة أو قانون بأخذه منهم، وهو ما يوضح عمق جذور المشكلة.
(1) تأثير البندقية!
حرم جامعة (ويسكونسن)/ مدينة ماديسون بولاية ويسكونسن/ الولايات المتحدة.. عام (1967):

يقرع اسم البروفيسور (ليونارد بيركويتز) أجراسًا كثيرة لدى متخصصي علم النفس، فالرجل كان أحد أهم العاملين على دراسة السلوك العدواني البشري وطبيعته ودوافعه ودرجاته، فضلًا عن كونه ضمن قائمة المائة لأكثر علماء النفس الذين تم الاستشهاد بمؤلفاتهم أو الإشارة لهم في القرن العشرين، وبالإضافة إلى باعه الأكاديمي الطويل حتى وفاته في الثالث من الشهر الحالي عن عمر يناهز الـ89 عامًا، فإن أحد أكثر ما يحمل اسمه شهرة هو تجربته التي أجراها في جامعة ويسكونسن والتي ولدت مصطلح الدراسات السلوكية (تأثير السلاح)!
في عام 1967، قام البروفيسور ليونارد بإجراء تجربة بالغة الأهمية تثير جدلًا واسعًا إلى يومنا هذا، أتى ليو بمعاونة زميله (أنتوني ليبيج) بمائة طالب من الجامعة الأمريكية وقاموا بصعقهم بشحنات كهربائية غير مؤذية بشكل عشوائي بحيث تدرج عدد الشحنات فصعق البعض مرة واحدة، وآخرين أكثر بحد أقصى 7 شحنات، بعد ذلك ومع ضمان تأسيس قاعدة عدوانية أخبر الباحثان كل طالب أن المسئول عن صعقهم هو شخص يجلس في الغرفة المجاورة ولديهم فرصة لصعقه أيضًا بعدد الشحنات الذي يريدونه وبلا حد أقصى، ثم قسموا المائة طالب لثلاثة أقسام متساوية تقريبًا، وعند إدخال طلبة القسم الأول بالترتيب تم وضع بندقية رماية على منضدة بجانب مفتاح الصاعق الكهربائي، ثم أخبر الباحثان نصف هذا القسم أن البندقية مملوكة للشخص الذي صعقهم وأخبرا النصف الآخر أن البندقية لا تخص أحدًا وإنما نسيها أحد أساتذة القسم في أثناء تجربة أخرى، أما في حالة القسم الثاني فتم وضع مضرب تنس وبضعة كرات بجانب مفتاح الصاعق، وفي حالة القسم الثالث تركت المنضدة خالية إلا من المفتاح، والهدف من كل ذلك هو معرفة من سيضغط على المفتاح ويرسل أكبر عدد من الشحنات الصاعقة الكهربائية، ولماذا.
في التجربة وجد ليو وأنتوني أن أكبر عدد من الشحنات الكهربائية تم توجيهه عن طريق الطلبة الذين تعرضوا لـ7 صدمات وكانت البندقية أمامهم على المنضدة يليهم الذين تعرضوا لأي عدد من الصدمات ولو واحدة فقط وكان أمامهم السلاح أيضًا، والمثير للاهتمام أن إخبارهم بأن السلاح مملوك للشخص الذي صعقهم من عدمه لم يشكل أي فارق، لقد ظل مجرد حضور البندقية طاغيًا وزاد من السلوك العنيف للقسم الذي تعرض لرؤيته المباشرة، أما القسم الذي اختبر وجود مضرب وكرات التنس فكان الأقل بطبيعة الحال، ثم نشر الباحثان التجربة وخلاصة النتائج في ورقة بحثية بعنوان (الأسلحة كمحفزات مفرزة للعدوانية) وأطلق ليو ما اشتهر فيما بعد بـ(تأثير السلاح)، كانت التجربة واضحة تمامًا في وقتها، حضور السلاح بأي شكل من الأشكال يرفع من السلوك العدواني للبشر!

(2) الصراع

ما تشهده الولايات المتحدة منذ أعوام هو صراع قانوني وحزبي لا ينتهي، صراع يسير جنبًا إلى جنب مع ازدهار صناعة الأسلحة الشخصية في الدولة الأولى عالميًّا من حيث التسليح الفردي، من ناحية فإن الجمهوريين يؤيدون حق شراء الأسلحة بلا قيود ويوجهون دفة الصراع دائمًا إلى إجراءات وفحوصات السلامة العقلية لحاملي الأسلحة، بينما يرى الديموقراطيون أن حق حمل السلاح المحمي بالتعديل الثاني في الدستور الأمريكي لا يعني أن تترك الأمور بلا ضوابط رادعة للتحكم في سلسلة شراء السلاح (من يشتري؟/ البائع/ نوع السلاح نفسه)، على الجانب الآخر يمكننا اعتبار عام 2008 هو العام الفارق وقبلة حياة جديدة لصناع الأسلحة الشخصية بعد حكم المحكمة الأمريكية العليا التاريخي، والذي أكدته في 2010 بتأييد حق حمل السلاح في كل المدن والولايات الأمريكية بلا استثناء، وهو الحكم الذي مثل حينها ضربة قوية لولايات تطبق قوانينها الخاصة، لفهم أكثر فإنه وحتى عام 2008 -بداية تولي أوباما الرئاسة- لم يكن حق حمل السلاح يسري على جميع الولايات والمدن الأمريكية، وإنما على البعض، بينما تفرض بعض الولايات والمدن الأخرى حظرًا على حمل السلاح يتدرج في وقته من حظر جزئي على أنواع معينة إلى حظر شامل على جميع الأسلحة الهجومية، ولذلك كانت شيكاغو هي الولاية التي تلقت النصيب الأكبر من الضربة لكونها تطبق حظرًا تاريخيًّا على اقتناء أغلب الأسلحة من سبعينيات القرن الماضي، وتليها ولاية إيلينوي والتي تمتلك أيضًا قوانين صارمة للتحكم في اقتناء السلاح الشخصي، وربما لم يبطل حكم المحكمة العليا الحظر فوريًّا في الولايات المعنية، ولكنه أعاد كل القوانين والتي يعترض عليها مؤيدو الاقتناء بلا شرط إلى محكمة الاستئناف، والتي في الغالب ستبت ببطلان الحظر والسماح باقتناء الأسلحة بلا قيود.

(3) من يدفع أجر العازف؟!

بعد عشر سنوات من السجالات والدعاوى القضائية ومحاجات الكونجرس لإلغاء التشريع والتي فشلت جميعها مع صمود القانون، وفي عام 2004، تم إلغاء القانون وفشلت كل محاولات تجديده بلا أي استثناء.
يمكن بلا شك تصنيف الجمعية الأمريكية الوطنية للبنادق على أنها الراعي الرسمي للأسلحة الشخصية في الولايات المتحدة، فالمنظمة التي أسسها الصحفي الحربي (ويليام شرش) والجنرال (جورج وود) والتي يرجع تاريخها إلى عام 1871، أي ما يقارب القرن ونصف من الزمن تقول إن أعضاءها يبلغون الخمسة ملايين أمريكي، ولو سلمنا بصحة الرقم فإنه على ضخامته يظل بطبيعة الحال لا يتجاوز نسبة الـ6% من حاملي السلاح الأمريكيين، ومن المفترض أن مهمة الجمعية الأساسية تتمثل في نشر الطرق المثلى للتعامل مع الأسلحة النارية وتعريف الأمريكيين بأي تشريع أو قانون خاص بها صدر أو سيصدر أو محتمل التطبيق، لكن المهمة الفعلية تختلف كثيرًا بالنسبة للجمعية المصنفة كإحدى أقوى ثلاث جماعات ضغط في واشنطن!

لا يمكن لأي كيان عاقل التخلي عن صناعة تدر ربحًا سنويًّا يقدر بـ11.7 مليار دولار، ومن ناحية أخرى فإنه لا يمكن أن يُصدر أصحاب الصناعة أنفسهم للشعب الأمريكي لأنهم بعد كل حادثة سيصبحون وجبة سهلة وشهية لوسائل الإعلام ولأهالي الضحايا، وسيصبح الأمر أقرب لإلقاء شخص أعزل في قفص به أسود، موت حتمي وخسائر مادية مهولة، ومن الناحية الثالثة فإن صانعي الأسلحة لا يمكنهم الصمود بوجه عارٍ أمام حزم التشريعات والقوانين التي تحاول كل يوم عن طريق نواب مجلسي النواب والشيوخ أن تأخذ طريقها للتنفيذ وتوسيع دائرة حظر الأسلحة مما يعنيه هذا من خسائر لا تنتهي لسوق يطمح في التوسع أكثر، لأجل كل ذلك فإن لوبيات الأسلحة بأموالهم يقومون بدفع أجر العازف واختيار اللحن بالطبع، ولا يوجد عازف أكثر مهارة ممن يمتلك قاعدة شعبية كالجمعية الوطنية التي أنفقت في 2014 فقط ما يفوق الـ28 مليون دولار على الأنشطة السياسية، وفي هذا الصدد يوضح مركز السياسات المرنة أن المنظمة أنفقت ضد المرشحين السياسيين الديموقراطيين خمسة عشر مليونًا مقابل أحد عشر مليون دولار لصالح المرشحين الجمهوريين المؤيدين بطبيعة الحال لأهداف المنظمة.
وكيف يبدأ الرعب؟!

هيثم قطب