في أكتوبر الماضي، أطاحت محكمة العدل الأوربية باتفاقية الملاذ الآمن (1) وهي ترتيب أطلسي يبلغ من العمر 15 عاما، والذي يسمح للشركات الأمريكية بنقل بيانات المستخدمين، مثل تاريخ البحث في جوجل، خارج الاتحاد الأوروبي. في حيثياتها لإبطال الاتفاق، وجدت محكمة العدل الأوروبية أن العلاقة الضبابية بين طرق جمع البيانات والأمن القومي الأمريكي تنتهك حقوق الخصوصية للمواطنين الأوروبيين الذين تنقل بياناتهم خارج البلاد. يترك هذا القرار العمليات الدولية واسعة النطاق لشركات التكنولوجيا الأمريكية على أرضية هشة قانونيا.

ولكن السبب الرئيس لهياج الشركات الأمريكية والمسئولين الأمريكيين أنهم هم الذين اعتادوا دائما على وضع القواعد. على مدى السنوات الـ70 الماضية، فقد شكلت الولايات المتحدة النظام العالمي للمعلومات والاستثمار والتجارة العابرة للحدود. وقد خلق هذا الانفتاح عالما مترابطا يمكن من خلاله للقواعد التي يضعها بلد واحد أن تشكل القواعد والأولويات بالنسبة للآخرين. وغالبا ما تمنح القوة المبالغ فيها هذا الدور إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ولكن هذه الاستراتيجية قد تعدت حدودها، وقرار إلغاء اتفاقية الملاذ الآمن يوضح بقوة أن واشنطن بحاجة إلى الاستيقاظ والنظر في تكاليف هذه الاستراتيجية. عندما تستخدم الولايات المتحدة الثقل الاقتصادي العالمي لتعزيز أمنها القومي، فإنها تجعل من المستحيل على الدول الأخرى استبعاد سوء النية في أنشطتها الخارجية. من الصعب على دول الاتحاد الأوروبي الرد بقوة، سواء بسبب القوة الهائلة للأجهزة الأمنية الأمريكية أو لأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يطفون بالفعل على بحر من القدرات الاستخباراتية والعسكرية والتكنولوجية الأمريكية. ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي قد وجد طريقة لإجبار الولايات المتحدة على دفع ثمن هيبتها. على الرغم من أن محكمة العدل الأوروبية ليس لها اختصاص على أنشطة وكالة الأمن القومي الأمريكية، فإنها تملك ولاية قضائية على العمليات الأوروبية مع الشركات الأمريكية. توضح المحكمة في حيثيات حكمها أن واشنطن تحاول الاستفادة من الترابط بين النظام العالمي لتحقيق الأهداف الأمنية الخاصة بها، وأن على الدول الأخرى ومحاكمها أن تقاوم تمحور الاقتصاد العالمي حول الولايات المتحدة.
واحدة من الأدوات الفاعلة لمنظومة الهيمنة هي القدرة على الوصول إلى العالم. وقد أزالت العولمة التي تقودها الولايات المتحدة العوائق أمام التدفق الحر للمال والبضائع والمعلومات. إزالة هذه الحواجز كانت له تكاليفه السياسية، ولكن هذه التكاليف قد تم تحمل معظم أعبائها من قبل الدول الأخرى، والتي اضطرت لضبط قواعدها المحلية بحيث يمكن أن تستفيد من الانفتاح الاقتصادي العالمي.
(1) تحويل التكامل العالمي إلى سلاح للهيمنة الأمريكية

خلال العقد ونصف الماضيين، مارست واشنطن هذه السياسة على نحو متزايد بوصفها سلاح، متحكمة بذلك في تشكيل قرارات الحكومات الأجنبية والشركات التي تعتمد على الوصول إلى عملة الولايات المتحدة، إضافة إلى قطاع المعلومات. بدلا من أن تنشر الولايات المتحدة قواعدها وتفضيلاتها من خلال آليات السوق المعتادة، فإنها تسخر القوة القسرية لأسواقها وشبكات المعلومات التي تتحكم فيها لتحقيق أهداف الأمن والسياسة الخارجية ومحاربة الإرهاب الدولي، ومعاقبة الدول المارقة.
وطالما استخدمت الدول الكبرى سياسات الحصار وفرض القيود على التصدير وتطبيق العقوبات للتلاعب بخصومها في سوق البضائع المادية. ولكن الولايات المتحدة لديها الآن القدرة على التلاعب والسيطرة على التدفقات المالية وتدفقات المعلومات أيضا. المؤسسات المالية الأجنبية التي تعتمد بشكل حاسم على المعاملات الدولارية تكون أكثر عرضة لسيطرة المنظمين في الولايات المتحدة، وقد تفرض عليها عواقب وخيمة في حال لم تتوافق مع القواعد الأمريكية. أحد هذه الاستراتيجيات يطلق عليها اسم «حرب الخزانة» وقد هندسها شخص يدعى «خوان زاراتي»، والذي خدم في عهد إدارة «جورج دبليو بوش» في منصب مساعد وزير الخزانة الأمريكية لتمويل الإرهاب والجرائم المالية. وتعمد هذه الاستراتيجية إلى قيام الولايات المتحدة بممارسة الضغوط على المؤسسات المالية الأجنبية لخدمة مصالح وكلاء واشنطن. وبموجب المادة 311 من قانون باتريوت الأمريكي (2)، فإن وزارة الخزانة الأمريكية لديها القدرة على تصنيف أي مؤسسة مالية أجنبية باعتبارها «مؤسسة مشتبه في تورطها بغسيل الأموال». هذا التصنيف يمكن أن يؤثر على قدرة البنك أو المؤسسة على العمل في الولايات المتحدة ويسمح واشنطن ممارسة الضغط على المؤسسات المالية العاملة في الأسواق الأمريكية.
تقويض الأصدقاء
بعض أهداف الولايات المتحدة، من بينها إيران وكوريا الشمالية، لديها عدد قليل من المتعاطفين. ولكن الولايات المتحدة تقوض أيضا أصدقاءها. في خدمة مكافحة الإرهاب، على سبيل المثال، تم إجبار أحد الكيانات المالية التي تقع في بلجيكا على الإفصاح عن كنز من المعلومات حول التحويلات المالية الإلكترونية في جميع أنحاء العالم، وكسر قوانين الخصوصية المتبعة في الاتحاد الأوروبي. وقد تم استغلال الترابط العالمي أيضا من أجل لدفع الحكومات الأجنبية لتغيير الممارسات المحلية حول قضايا لا يبدو أن لها علاقة بالأمن مثل السرية المصرفية، والرشاوى وغسيل الأموال. البنوك السويسرية، التي طورت نماذج أعمالها لمساعدة الأثرياء على تجنب دفع الضرائب في العالم، تجد نفسها الآن في بؤرة الاهتمام من قبل سياسات الأمن القومي الأمريكية. كما استيقظ المسئولون الأمريكيون إلى أهمية التدفقات المالية التي تمول شبكات إرهابية، لذا فإنهم قد بدأوا في استهداف الممارسات المصرفية غير المشروعة.
(2) في مواجهة الشركات الأمريكية

هذه الادعاءات خاطئة وغير مستدامة من الناحية السياسية. في وقت قريب، فإن الولايات القضائية في الدول الكبرى سوف تتوقف عن التسامح مع الإكراه الذي تمارسه الولايات المتحدة. عندما تستهدف الولايات المتحدة الدول أو الأفراد التي ينظر إليها على أنها كسرت القواعد، مثل إيران أو روسيا، فإنه يمكن في العادة إقناع الدول الأخرى بالانضمام إليها لإعطاء أفعالها غطاء من الشرعية. ولكن عندما تكسر الولايات المتحدة نفسها القواعد وتسعى لتقويض المبادئ التوجيهية الدستورية الأساسية للبلدان الأخرى، فإنه يجب أن نتوقع رد فعل عنيف. كلما سعت الولايات المتحدة لإساءة استغلال النظام الذي خلقته فإن الدول والشركات الأجنبية سوف تبدأ في تحديها.
وقد تم الشروع بالفعل في تطبيق سياسة الاعتماد المتبادل في مواجهة الولايات المتحدة بدلا من تطبيقها معها. مع دخول الشركات الأمريكية إلى الأسواق الدولية فقد أصبحت أكثر عرضة لقواعد الدول الأخرى وأكثر قلقا حول السياسات والإجراءات التي تثير غضب حكوماتها. وهذه هي مشكلة حقيقية خاصة لشركات التكنولوجيا والتي لا تشبع من جمع المعلومات الشخصية المفصلة التي تغذي بشكل كبير دولة المراقبة الأمريكية. وحيث إن البلدان الأجنبية لا تميل إلى توجيه الاتهامات المباشرة نحو وكالة الأمن القومي، فإنها تميل إلى اللجوء إلى الأهداف التي يمكنها أن تؤثر على سلوك الولايات المتحدة عبر إجبار الشركات الأمريكية على تغيير نظامها.
وبفضل ما كشفه ناشط الخصوصية الأمريكي والمقاول السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي «إدوارد سنودن»، فإن الاستياء تجاه الدولة الأمنية الأمريكية قد نما إلى معارضة نشطة. وأظهرت ملفات «سنودن» أن الولايات المتحدة، جنبا إلى جنب مع حلفائها الرئيسيين، قد استغلوا نقاط الضعف التقنية للتجسس على العالم، وجمع كميات هائلة من البيانات من الاتصالات الشخصية لمئات الملايين من البشر وتمشيطها من أجل الحصول على المعلومات الأمنية ذات الصلة. وهذا يعني أن واشنطن التي أمضت سنوات في الدعوة إلى الإنترنت المفتوح وأدانت المراقبة الرقمية التي فرضتها بلدان مثل الصين وروسيا قد استغلت هذا الإنترنت المفتوح لأغرض خبيثة. وكانت الولايات المتحدة تبشر علنا بالتدفق الحر للمعلومات، في حين أن هذا التدفق كان يتم توجيهه سرا إلى خوادم وكالة الأمن القومي. وقد أيدت بشدة التوسع العالمي لشركات التكنولوجيا، وعلى سبيل المثال، فإنها قد دافعت عن استخدام تويتر من قبل نشطاء الربيع العربي، في الوقت الذي طالبت فيه تلك الشركات، بمنتهى الهدوء، بتسليم هذه الكنوز الدفينة من البيانات.

وينبع الخلاف حول اتفاقية الملاذ الآمن من حقيقة أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديهما فهم مختلف جذريا للكيفية التي ينبغي أن يعمل بها مبدأ عمل الخصوصية في العصر الرقمي. بداية من التسعينيات، وضعت الدول الأوروبية قواعد شاملة تنظم جمع ومعالجة المعلومات الشخصية، والتي تشرف عليها وكالات تنظيمية مستقلة تسمى “سلطات حماية البيانات”. هذا النهج من الخصوصية تمت ترقيته إلى حق دستوري أساسي عندما اعتمد الاتحاد الأوروبي ميثاق الحقوق الأساسية الخاصة به في عام 2009. الولايات المتحدة، في المقابل، تفتقر إلى نهج شامل في الخصوصية، وتعتمد بدلا من ذلك على خليط من القواعد غير المنظمة. المشكلة بالنسبة للولايات المتحدة هو أن الأنظمة الأوروبية طالما كانت تحظر نقل البيانات إلى البلدان التي يعتبر الاتحاد الأوروبي ضعيفة في حماية الخصوصية ومن بينها الولايات المتحدة.
ونظرا للفوائد الاقتصادية من تبادل البيانات، فإن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي قد شرعا في التفاوض بشأن اتفاقية الملاذ الآمن في عام 2000 من أجل تجاوز هذه الخلافات. وكجزء من هذا الترتيب، فقد وافقت الشركات الأمريكية على الخضوع لمجموعة من المبادئ الأساسية للخصوصية يتم الإشراف عليها من قبل من قبل لجنة التجارة الاتحادية في الولايات المتحدة. خلال السنوات الـ15 الماضية، استفادت أكثر من 4 آلاف شركة أمريكية من اتفاقية الملاذ الآمن لتسهيل التجارة الإلكترونية ونقل البيانات عبر الأطلسي وتفادي الولايات القضائية. ويأتي قرار المحكمة الأوربية الأخيرة ليهدد كل هذه الأمور.
في أعقاب ما كشف عنه «إدوارد سنودن»، بدأ نشطاء الخصوصية في أوروبا في استكشاف القنوات القانونية للحد من المراقبة الأمريكية. في عام 2013، رفع «ماكس سكريمز»، طالب القانون النمساوي، قضية في أيرلندا ضد اتفاقية الملاذ الآمن استنادا إلى المعلومات التي كشف عنها «إدوارد سنودن». وقال إن فضائح تجسس وكالة الأمن القومي أظهرت عدم وجود نظام فعال لحماية البيانات في الولايات المتحدة وأن الاتفاق الملاذ الآمن لا يمكن أن تحمي المواطنين الأوروبيين من المراقبة الجماعية. ويبدو أن المحكمة العليا في أيرلندا قد اتفقت مع الأمر، حيث وجدت أن «ما كشف عنه سنودن يبرهن على وجود تجاوز كبير على جزء من السلطات الأمنية، مع عدم اكتراث لخصوصية المواطنين العاديين. حقوق حماية البيانات صارت مهددة بشكل كبير بسبب برامج المراقبة غير خاضعة للرقابة». وقد أشارت المحكمة الأوربية في حكمها إلى النتائج التي توصلت إليها المحكمة الايرلندية العليا والتي ربطت بين الوثائق التي كشف عنها «سنودن» وبين اتفاقية الملاذ الآمن فيما يتعلق بغموض قواعد جمع البيانات بالنسبة إلى القطاع الخاص وبرامج المراقبة العامة في الولايات المتحدة. وخلصت إلى أن متطلبات الأمن القومي والمصلحة العامة في الولايات المتحدة تتغلبان على خطط الملاذ الآمن، حيث تقوم الولايات المتحدة بتجاهل تعهداتها الملزمة في هذا الصدد ولا تلتزم بالإجراءات الوقاية التي تتعارض مع مصالحها. وبالتالي فإن خطة الملاذ الآمن يتم العبث بها من قبل السلطات في الولايات المتحدة ما يمثل انتهاكا للحقوق الأساسية للأفراد.
(3) نحو نظام جديد
عن طريق تحويل شركات التكنولوجيا الأميركية إلى أدوات للاستخبارات الوطنية، فإن واشنطن قد أضرت بشكل بالغ بسمعة هذه الشركات كما أنها تعرضها للوقوع تحت طائلة العقوبات الأجنبية. أرباح هذه الشركات، التي تمثل حصة كبيرة في الاقتصاد الأمريكي، تعتمد بشكل رئيس على التدفق الحر للمعلومات عبر الحدود. المسئولون الأجانب والنشطاء السياسيون والقضاة الذين يعملون على الحد من هذه التدفقات لحماية مواطنيهم هم في واقع الأمر يوجهون ضربة إلى قلب هذه الشركات. وقد أجبر قرار محكمة العدل الأوربية بشأن اتفاقية الملاذ الآمن واشنطن الآن أن تقرر ما إذا كانت تقدر القدرة المطلقة للتجسس على الأوربيين أكثر مما تقدر الإنترنت المفتوح والرفاه الاقتصادية لشركات الأعمال الأميركية القوية. في الواقع فإن الاتحاد الأوربي يستخدم نفس تكتيكات الولايات المتحدة ضدها.

بحكم طبيعته، فإن الاعتماد المتبادل يمكن أن يكون مصدرا للضعف كما يمكن أن يكون سلاحا. كما توضح حالة الملاذ الآمن، عندما يتم تقديم التفضيلات الأمنية للولايات المتحدة على الحقوق الأساسية للمواطنين في ولايات قضائية أخرى فإنه من المرجح أن تتم مواجهة ذلك برد فعل عنيف. الولايات المتحدة بحاجة إلى التعاون العالمي بشأن مجموعة من القضايا الحساسة، بدء من غسل الأموال والعقوبات. ومع ذلك فإنه لا تزال مصرة على الأحادية، حتى عندما يهدد ذلك قدرة الشركات الأمريكية على العمل عبر الولايات القضائية.
في سياق التحقيق الجنائي، على سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة تطالب الآن شركة ميكروسوفت بتسليم البيانات الموجودة في مركز البيانات الخاص بها في أيرلندا. بدلا من طلب البيانات من خلال عمليات التبادل الحكومية الدولية، عبر قيام الحكومة الأمريكية بتقديم طلب رسمي بذلك إلى المسئولين في أيرلندا، فإن الولايات المتحدة تستخدم الانتشار العالمي لنظامها القانوني للمطالبة بالبيانات حتى في مواجهة معارضة من قبل الحكومة الأيرلندية وشركات وادي السيليكون التي تخشى أن تسهم هذه الخطوة في المزيد من الإساءة لسمعتها. مجموعة من عمالقة التكنولوجيا القوية، بما في ذلك شركة آبل وشركة سيسكو سيستمز، قد قدموا «عريضة دعم» في المحكمة لدعم مايكروسوفت وضد موقف الحكومة الأمريكية. وإذا ما استمر هذا النوع من السلوك من جانب حكومة الولايات المتحدة، فإنه سوف يضر بشكل حاسم بتطلعات الشركات الأمريكية لبناء حوسبة سحابية عالمية. بدلا من السحابة المشتركة، فإن الشركات سوف يتعين عليها حينئذ محاولة الاستفادة من مساحات بيانات وطنية مجزأة مخفية وراء غابة من الأنظمة ومخططات الحماية بالتشفير. هذا سوف يؤذي اقتصاديات مقدمي الخدمة السحابية داخل النطاق، كما سيؤذي مقدمي الخدمة الرئيسيين في الولايات المتحدة.