
تمر الأمة الإسلامية بمرحلة تأسيسية يتم فيها إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط (قلب العالم الإسلامي) من جديد، وفي ظل هذه الموجات العاتية تبرز حاجة الأمة جلية لجهود الجماعة وتقديم رؤية فكرية واستراتيجية طموحة، والدخول في دائرة التأثير والنفوذ باعتبارها القوة الإسلامية الأكثر انتشارًا في المنطقة، ويقدم هذا المقال خمسة عناصر أقترحها باعتبارها منطلقات نظرية يجب أن تنطلق منها أية رؤية استراتيجية للجماعة.
أولاً: أممية المشهد وديناميكيته تجعل من التحالف “الإخواني- الإخواني” ضرورة قصوى لا تحتمل أي تأخير:
عندما ناقش المستشار البشري الجامعة السياسية لدى الإمام البنا، وتأسيسه للجماعة بعد عامين فقط من مساهمته في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، يرى البشري أن البنا تقدم إلى المساحة التي توقفت عندها الجمعية بالدعوة إلى الجامعة السياسية الإسلامية “كعمل حاضر ودعوة مباشرة”، ووفق رؤية مفكري الإخوان التأسيسيين فإن قضية الجامعة السياسية لدى الإخوان يجب أن تظل محسومة
ولست أدري سوى الإسلام لي وطنـًا ::: الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذكر اسم الله في وطن ::: عددت أرجاءه من جزء أوطاني (أبيات لشاعر الإخوان عبد الحكيم عابدين رحمه الله).
وفي ظل الحالة التأسيسية التي تشهدها المنطقة فإننا نشهد انهيارًا واقعيًّا غير مسبوق لفكرة الحدود “السايكس بيكونية”، فنجد أن جميع القوى الفاعلة تكون لنفسها خطوطـًا استراتيجية أمامية تحالف وتعادي على أساسها.
انطلاقـًا مما سبق فإنه لم يعد يسع الجماعة اللعب داخل إطار القطرية الضيق، ويجب إيجاد رؤية استراتيجية وتحالف وثيق بين كافة وحدات الإخوان في المنطقة.
ثانيًا: ضعف العنصر البشري للجماعة وحاجته إلى عملية تطوير وتأهيل مستمر:
شهدت الجماعة في العقود الأخيرة حالة من الركود الفكري والتنظيري والاستراتيجي أدت بدورها إلى سيولة فكرية وثقافية، فتجد داخل الجماعة وربما داخل الهيكل القيادي نفسه من يؤمن بأفكار “الإسلاميين التنويريين” عن قبول الإسلام للدولة القومية الحديثة؛ بينما تجد البعض على النقيض تمامًا يؤمن بما ذهب إليه سيد قطب في أن المنطلق الفلسفي للدولة الحديثة وثوابت الإسلام الأساسية ضدان لا يجتمعان.
وأضرب مثالاً حيًّا برأي الإخوان في تجربة أردوغان ومحل الإعجاب بها، وهل هي “نموذج للتكامل والتجديد في الإسلام” كما ذهب الشيخ القرضاوي، أم أنه نموذج للعلمانية الجزئية وتقويض لنموذج العلمانية الشاملة الأتاتوركية كما يذهب إلى ذلك أصحاب التجربة أنفسهم؟!
كما أننا نلاحظ أن الجماعة انتقلت من الرؤية الإصلاحية إلى الرؤية الثورية دونما تردد أو تريث، ولم تشهد الجماعة طرحًا نظريًّا وفكريّا حقيقيًّا لهذه النقلة المفصلية في تاريخ الجماعة، وكأنه كان قرارًا انفعاليًّا أو قرارًا تكتيكيًّا لمشهد استراتيجي بامتياز.
كما أنه من اليسير رصد حالة تململ من الوضع الحالي داخل قطاع مهم من الشباب، وتساؤلات عن التأصيل الشرعي، ورؤية الجماعة للخروج من هذا المأزق، وغيرها من الأسئلة الملحة التي تواجه بضبابية في الرؤية لدى القيادات وعجز حقيقي عن الإجابة عن أسئلة المرحلة، فضلاً عن أسئلة المستقبل القريب أو البعيد، وهو ما يفسر أن الرأي العام لدى شريحة مهمة من شباب الجماعة الفاعلين في العالم الأزرق يحركه مجموعة من الشباب “الإسلامي الثوري”، باعتبارهم يقدمون بضاعة أعمق؛ أو بتعبير أدق؛ أكثر جدية مما تقدمه لهم المحاضن التربوية التقليدية أو صفحات شباب الإخوان المشهورين.
وقد يذهب كثيرون إلى أن هذه أعراض المشكلة الإدارية المزمنة، ولا أجدني مختلفًا كثيرًا مع هذه الافتراضية؛ ولكنني أرى أن علاج هذه المشكلة بعملية إصلاح إدارية وهيكلية لم يعد كافيًّا؛ حيث إنها أدت في النهاية إلى تداعيات أخطر وأشد فتكـًا؛ وأخطر هذه التداعيات على الإطلاق هي ضعف العنصر البشري خاصة في المجالات الفكرية والتنظيرية والاستراتيجية، مما أدى إلى ضعف في مجالات حيوية أولتها الجماعة اهتمامًا خاصًّا في السنوات الأخيرة كالإعلام والتسويق.
وهو ضعف يعكس ضعف البضاعة المعروضة وقدراتها التنافسية؛ فمثلاً لم يعد من المجدي تسويق السلمية كخيار استراتيجي ليس لضعف القدرة التسويقية، ولكن لضعف الخيار نفسه وهلم جرا، وصولاً إلى الضعف في مجالات لم تعطها الجماعة أي اهتمام “كمجالات التعامل الخشن” وهو ما حجم خياراتها في أماكن عدة وعلى رأسها مصر.
ولهذا فإن أية رؤية لإصلاح الجماعة يجب أن تنطلق أولاً وقبل كل شيء لتطوير العنصر البشري وتأهيله حتى يصبح قادرًا على خوض غمارمعركة طويلة، وشرسة، وأسلحة الفتك المعنوية فيها قد تكون أخطر من أسلحة الفتك المادية.
ثالثـًا: إعادة النظر في موقف الجماعة من الدولة القومية الحديثة، وتقديم رؤية أولية عن شكل الدولة الإسلامية التي تبشر بها الجماعة.
“إن أي مجتمع (جماعة) يريد أن ينتقل من دائرة التأثر والاستخدام، إلى دائرة التأثير والنفوذ، يجب عليه أولاً وقبل كل شيء أن يعيد تكوين هويته وسيكولوجيته وثقافته السياسية “أحمد داوود أوجلو بتصرف .
لذلك فإن أية انطلاقة حقيقية للجماعة يجب أن تكون وفق رؤية فكرية ونظرية عميقة ومركبة وواقعية، بحيث يمكن من خلالها تحديد معايير النجاح، وتجييش الصف وراءها، وإعادة إحساسه بذاته وتفرده بامتلاكه طرح بديل للمشاريع السنية المنافسة، وهو ما سيعزز بدوره قدرة الجماعة التنافسية على جمهور الإسلاميين وقوته الضاربة “الشباب”؛ خاصة بعد تراجع “السلفية السعودية” بعد دعمها للانقلاب في مصر، وتراجع طرح “الإسلام التركي” مقابل الطرح الأصولي الذي غذاه قمع ثورات الربيع العربي، وكذلك التراجع المستقبلي المتوقع لـ “تنظيم الخلافة”.
رابعًا: رؤية استراتيجية طويلة الأمد لا تخضع لمصالح أحد ومحاذيره، ويشرف على تنفيذها كوادر مؤهلة تأهيل حقيقي:
“إن التكتيك يستخدم لتنظيم عملية قتال الوحدات العسكرية، وأما الاستراتيجية فهي فن القتال الذي يستخدم من أجل الحرب النهائية” كارل فون كلاوسفتز.
إن أية رؤية استراتيجية لا تنطلق من مبدأ الثقة في النفس، والقدرة على المنافسة، وقراءة المشهد قراءة واقعية، ستقع بالتأكيد في فخ المعالجات التكتيكية السريعة، وتربط نفسها باستراتيجيات الآخرين ومصالحهم، وتبعد نفسها عن أية تسويات وخرائط نفوذ مستقبلية.
في معادلة القوة لأوجلو وضع الرجل المعطيات الثابته والمتغيرة رهنًا لمعطيات ثلات محورية وهي الذهنية الاستراتيجية والإرادة السياسية والتخطيط الاستراتيجي، ثم أشار في شرحه لهذه المعطيات إلى تجربة خسارة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى بالرغم من بعض النجاحات على الجبهات المختلفة، وأرجع هذا إلى غياب العقليات الاستراتيجية الثقيلة مما أدى إلى إدارة المشهد بشكل تكتيكي مخل، مما أدى إلى الاعتماد والمراهنة الكاملة على استراتيجية الألمان.
تعتبر الكوادر الإدارية والحركية من أهم المحاور التي تحتاج إليها الجماعات والتنظيمات لكي تبقى، ولكن ما الفائدة من وجود كوادر إدارية وحركية وجنود فدائيين إذا لم يتم توجيه كل هذه الإمكانات بعقليات استراتيجية ثقيلة تستطيع اختيار المعركة وتحديدها، بل أحيانا فرضها إن تطلب الأمر، وفقـًا لرؤية استراتيجية بعيدة ومحددة، وليس مجرد القدرة والشجاعة على اتخاذ قرار خوض المعارك التي يفرضها علينا العدو.
خامسًا: فيما يخص الملف المصري: إخضاع الجيش وليس مجرد تحييده.
إذا انطلقنا من “نظرية النفوذ” لماكيندر (وهي أنه للوصول إلى قوة نفوذ فاعلة فإنه يجب السيطرة على منطقة محورية محمية) فإنه يمكن اعتبار مصر هي قلب العالم السني، ولذلك فإن أية استراتيجية طموحة للحراك الثوري في مصر يجب أن تنطلق من ضرورة إخضاع نواة الدولة الصلبة وهي الجيش، وليس مجرد عودته إلى ثكناته وتحييده؛ وتعتبر التجربة الإيرانية ملهمة في هذا المجال؛ فقد استطاعت الثورة الإيرانية إخضاع الجيش وتأمين الجبهة الداخلية، مما مكنها من التحرك بفاعلية أكبر للقيام بدور خارجي مؤثر.
وختامًا فإنني أرجو أن تقابل هذه الأفكار والمقترحات بنقاشات جادة ومثمرة داخل وخارج دائرة الجماعة؛ حتى يمكن تطويرها والانطلاق منها إلى تشكيل رؤية استراتيجية طموحة وفاعلة تمكن الجماعة من الانتقال إلى دائرة التأثير والفاعلية والمساهمة في قيادة الأمة الإسلامية نحو التحرر من الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية.